أين يمر الخط الفاصل بين حرية التعبير والتشهير في مواقع التواصل الاجتماعي؟
يعتمد الأفراد اليوم في تكوين آرائهم واتخاذ قراراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. ويشمل ذلك ابتداءً المعاملات اليومية البسيطة مثل اختيار مطعم، وصولًا إلى القرارات المصيرية مثل اختيار الطبيب الجراح القائم على عملية جراحية مصيرية. تلعب منصات التواصل الاجتماعي، دورًا كبيرًا في بناء سمعة الأفراد والمنشآت أو التأثير عليهم سلبًا، ويأتي هذا الدور من خلال المؤثرين والمستخدمين فيها.
في ظل كون هذا الدور يوفر فرصًا إيجابية للأعمال والأفراد، فإنه يحمل كذلك مخاطر تتمثل بتدمير السمعة، فقد تتأثر سمعة شاب أو فتاة، أو مستقبل منشأة صغيرة كانت أو كبيرة، نتيجة انتشار معلومات سلبية أو مضللة. مشاركة الآراء والتجارب عبر هذه المنصات قد تكون مفيدة للآخرين، إلا أن تجاوز الحدود وتحويل النقد إلى تشهير يعد جريمة جنائية يعاقب عليها القانون السعودي. فالاستياء أو الإساءة لا يبرران التشهير.
تثار هنا عدة تساؤلات مهمة: ما هي الآراء التي يمكن نشرها دون تجاوز القانون؟ وما الذي يعد تشهيرًا وما يعد رأي أو نقد نظامي؟ وكيف يمكن حماية السمعة والحقوق القانونية عند ممارسة حق التعبير؟ سنتناول في هذه المقالة تلك القضايا بشكل مفصل، مع تسليط الضوء على حدود حرية التعبير والتشهير ومسؤولية الأفراد على منصات التواصل الاجتماعي.
تعريف التشهير: اصطلاحًا، قانونيًا، اجتماعيًا.
التشهير اصطلاحًا بين فقهاء الشريعة الإسلامية: إشاعة السوء عن إنسان بين الناس.
قانونيًا: وفقاً للنظام السعودي لمكافحة الجرائم المعلوماتية، يُعرف التشهير بأنه كل فعل ينطوي على نشر معلومات أو أخبار أو إشاعات كاذبة أو مضللة تهدف إلى إلحاق الضرر بسمعة أو كرامة أو مكانة شخص معين أو مجموعة من الأشخاص. يتجسد التشهير في عدة أشكال، منها النشر عبر وسائل الإعلام التقليدية أو الإلكترونية، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
تعريف حرية التعبير وحدودها.
حرية التعبير هي ابدأ الرأي أو النقد في النطاق القانوني والشرعي وهي مكفولة نظامًا طالما لم تتجاوز حدودها إلى النقد الشخصي والتشهير المجرم نظامًا.
الفرق بين النقد البناء والتشهير.
النقد البناء " لا يعد تشهيرً":
ابداء الرأي بطريقة موضوعية سلبية أو ايجابية تتعلق بصلب المحتوى كالأفعال أو الأفكار ولا تتطرق للأشخاص، والجدير بالذكر أن النقد يكون بناء بحيث يقصد الإصلاح أو التوضيح. كما أن نية الناقد يجب الا تتجه للإساءة، بل للتحسين أو التوضيح، مثال:
1- مطعم: قمت بزيارة هذا المطعم ولكن الخدمة كانت بطيئة فاضطررننا للانتظار أكثر من ساعة، أتمنى تحسين سرعة الخدمة.
2- عيادة :العيادة ممتازة والأطباء والممرضين جيدين ولكن هناك إشكالية في تنظيم المواعيد أحيانًا يتم الإلغاء بشكل مفاجئ وتأخيرات غير متوقعة، أتمنى تحسين جدولة المواعيد لخدمة تليق باحترافية العيادة.
تجارب المستخدم كانت سلبية ولكنه أبداء رايه عن الخدمة ولم يوجه إساءات للمنشأة أو أحدى موظفيها كما انه قدم إرشادات تحسن الخدمة وتعالج الاستياء.
التشهير:
نشر تعليقات أو معلومات حقيقة أو خاطئة بنية الإساءة لسمعة شخص طبيعي أو اعتباري، تكون هذه التعليقات أو المعلومات عن ذات الشخص لا الفعل، اسلوبها شخصي وخالي من الموضوعية، مثال:
1- مطعم: المطعم سيء والموظفين عديمي احترام، لا يستحق الزيارة.
2- العيادة: طبيب عيادة الجلدية فاشل ونصاب ولا انصح بزيارته.
التجارب هنا أيضًا كانت سلبية ولكن المستخدم وجه اساءات شخصية للمنشأة أو أحدى موظفيها بطابع قد يوحي ان مجرد رأي ولكن في الحقيقة هذه إساءة شخصية من شأنها تشويه سمعة المنشأة أو الموظف وعليه فهي جريمة تشهير ولنكون بصدد جريمة التشهير يجب توافر اركانه كأي جريمة جنائية وهي كالتالي:
أركان جريمة التشهير :
الركن المادي: يتكون الركن المادي من ثلاث عناصر وهي:
1- الفعل: ويتجسد الفعل في جريمة التشهير بنشر معلومات أو تعليقات تتعلق بشخص ما، بهدف الإساءة وتشويه السمعة، ويكون ذلك بعدة وسائل من أهمها مواقع التواصل الاجتماعي.
2- النتيجة: تحقق الضرر على الشخص المعني بعملية التشهير، وتتحقق النتيجة بتحقق الضرر ويكون الضرر بمجرد تشوه سمعة المعني أمام العامة أو الغير وذلك لكون جريمة التشهير علنية بالأصل فإذا كانت المعلومات بين الشخصين فلن تكن جريمة تشهير لعدم وجود ضرر فعلي.
3- العلاقة السبيبة بين الفعل والنتيجة: يجب أن تكون النتيجة (تضرر السمعة) ناتج بشكل مباشر من الفعل (تشويه السمعة)، فإذا كانت الاضرار واقعة، ولكن لأسباب او ظروف اخر لا تتعلق بالفعل فتنتفي عملة التشهير أن تحققت النتيجة ووجد الفعل فلن تكن جريمة تشهير الا برابطة سبيبة بينهما.
الركن المعنوي: النية الجرمية: يجب أن يكون الشخص القائم على جريمة التشهير على عالمًا ومدركًا للأثر الناتج عن فعله كاثر قانوني ومسيء بأنه فعل يعاقب عليه القانون؛ وهذا الشرط لا يتنافى مع مبدأ (لا يعتد بجهالة النظام) كون الشرط الأساسي هنا أن يكون الفاعل على علم بنتائج السلبية للفعل ولا يشترط أن يكون على علم تفصيلي بأثاره القانونية.
إرادة القصد الجنائي: أي ان الجاني كان قاصد ان يلحق الضرر بالمجني من خلال نشر معلومات باختلاف درجة مصداقيتها تهدف لتوشيه سمعة المجني عليه.
وهنا يظهر أكبر التحديات في اثبات التشهير وهو إثبات النية الجرمية أي أن نثبت ان المشهر كان قاصدًا الحاق الضرر بالمشهر ضده ويمكن اثبات ذلك بجميع وسائل الاثبات وحتى الوسائل الرقمية، ولكن يجب أن يكون الاثبات
أذن لكون التشهير جريمة جنائية فيجب توفر أركانها كاملة.
فجوة الوعي القانوني لدى الأفراد.
يعتقد الافراد بأن الفاصل بين التشهير وابداء الرأي هو (صحة المعلومة) فيقع بعض الأشخاص في جريمة التشهير اعتقادًا منهم بنظامية تصرفهم لمجرد أنهم يقولون "الحقيقة"، و الواقع أن صحة المعلومة من عدمها لا تجيز التشهير بل أن الفاصل الحقيقي والنظامي هما اثنان:
أ-موضوعية النقد: كما اشرنا سابقًا يجب أن يكون النقد موضوعي وأن لا يذكر جوانب شخصية تضر بسمعة الشخص الطبيعي او المعنوي
ب- نية الاضرار: التشهير جريمة جنائية أذن يجب ان يتوفر فيه الركن المعنوي وهو سوء النية أو " النية الجرمية"
فجوة التطبيق القانوني بسبب سرعة وانتشار المحتوى.
مع كون القانون السعودي صارم ورادع فيما يخص تجريم التشهير والعقوبات المطبقة عليه فقد قرر عقوبة تصل إلى السجن أو غرامة تصل على نص مليون ريال؛ إلا أن سرعة انتشار محتوى التشهير وقفت عقبة دون الردع العام فثقافة الفضيحة " الترند" تنتشر بسرعة هائلة خصوصًا مع وجود شبكات التواصل الاجتماعي التي تدعم تعزز هذه السرعة وعليه فإن وظيفة الردع الوقائية لصالح المجني عليه تصبح اقل فعالية ويتبقى وظيفته العقابية التي يقلل منها الفجوة القانونية لدى الأطراف فالمشهر يعتقد أن التشهير حق من حقوقه في تعبير عن الرأي والمشهر به لا يعلم حقوقه في التقاضي والتعويض
صور التشهير في التواصل الاجتماعي
نشر الشائعات والأخبار الكاذبة:
نشر معلومات خاطئة بهدف الاضرار بمنشأة ما، مثل: تداول خبر غير صحيح عن عدم التزام احدى المطاعم بإرشادات البلدية، أو أحدى العيادات بأنظمة وزارة الصحة؛ وذلك بهدف تشويه السمعة وتقليل العملاء المحتملين لأي سبب.
نشر الصور أو الفيديوهات بهدف الإضرار:
مشاركة صور أو فيديوهات شخصية دون إذن أصحابها مع تعليقات مسيئة أو ساخرة للإساءة لسمعة هؤلاء الأشخاص، نشر فيديو لشخصية مشهورة لتهمة أخلاقية أو تصوير أحد الزملاء بقصد السخرية وتهكم منه امام الزملاء الاخرين أو للعامة.
التنمر الرقمي وحملات التشويه المنظمة:
هذه أحدى صور التشهير الأكثر انتشارًا في يومنا هذا ويعتقد المستخدمين أنها حرية ولا تمس التشهير بصلة لكونها حملات جماعية وليس رأي شخصي، وهذا غير صحيح فكون أركان جريمة التشهير تحققت فأن جميع أعضاء الحملة مسؤولين عنها نظاميًا وصورها، انشاء حسابات وهمية لنشر تعليقات سلبية في حسابات أحدى المشاهير أو الشركات، أو إنشاء "هاشتاق" لتقليل من احدى الأشخاص، يقوم بمثل هذه التصرفات الكثير من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي دون علم بأنها جريمة ويعاقب عليها النظام السعودي معتقدين أن إساءة المستهدف من حملات التشهير تبرر تصرفهم وتجرده من صبغته الجرمية وهذه بدوره يضيع حقوقهم أن كان لهم حقوق من إساءة هذا المستهدف فبدلًا من ان يطالبون بحقوقهم بطريقة مشروعة ينشون للخصم حق في مقاضاتهم
أمثلة تطبيقية
أن التصوير في الأماكن العامة بدوره أيضًا تساؤل كبير حول كون الحق للمصور بأن يصور في مكان عام او حق للأشخاص بأن لا تنتهك خصوصياتهم في الأماكن العامة، وعليه أورد لكم الحدود الفاصلة بين الحفظ على حق كلا الاطراف
التصوير العام: أن يقوم الشخص بتصوير معلم أو حدث في المكان العام دون ان يركز على أشخاص بعينهم وهذا لا يُعد تشهيرًا.
تصوير شخص عشوائي في المكان العام مع تعليقات عن هذا الشخص وهذا يُعد تشهيرًا.
تصوير لمصلحة عامة: أي أن يقوم المصور بتصوير على حادثة طبيعية أو مشكلة في أحدى الشوارع بهدف النقد البناء لتحسين الخدمات المتعلقة بالمشروع.
الآثار المترتبة على التشهير
الآثار الفردية: الاثار التي قد تنتج عن جريمة التشهير قد تكون لها أثر معنوي أو اثر مادي
الأثر المعنوي:
قد ينتج عن التشهير عدة نتائج منها التنمر والكراهية وتشوه السمعة وعليه فإن ذلك يؤذي المشهر به نفسيًا.
الأثر المادي:
قد ينتج عن تشوه سمعة المشهر به ووعليه قد يتسبب ذلك بمشاكل مهنية فقد يفقد المشهر به وظيفته أو عملاء لشركة وعليه فقد تتناقص وتفوت مصالح عديدة نتيجة حملات التشهير.
الآثار المجتمعية: قد تتأثر حياة الشخص اجتماعيًا بشكل مباشر وخطير فقد يخسر الناس الثقة به ، وتنتشر عنه الشائعات، ويتزيد عليه خطاب الكراهية.
الجانب القانوني
التنظيم القانوني المتعلق بالتشهير الإلكتروني :
العقوبة: قد حدد المنظم السعودي عقوبة جريمة التشهير في نظام الجرائم المعلوماتية في الفقرة الخامسة من المادة الثالثة (يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تزيد على خمسمائة ألف ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين؛ كلُّ شخص يرتكب أيًا من الجرائم المعلوماتية الآتية: التشهير بالآخرين، وإلحاق الضرر بهم، عبر وسائل تقنيات المعلومات المختلفة.)
تعويضات: يحق للمتضرر المطالبة بتعويض عن الاضرار المادية والمعنوية التي لحقت به جراء التشهير ويقدر التعويض بحسب الضرر ولاستحقاق التعويض يجب أن تتوافر أركان التعويض وهي :
الخطأ: ويتمثل في الفعل المخالف للقانون وهو التشهير وعليه يجب أثبات فعل التشهير بكافة وسائل الاثبات.
الضرر: الاضرار المادية والمعنوية ويجب اثباتها ايضاً كخسارة مالية أو فوات ربح ممكن أو اضرار نفسية كالأذى النفسي
العلاقة السبيبة: الرابطة ببين الفعل وهو التشهير والضرر ماديًا أو معنويًا.
التوصيات:
رفع الوعي الرقمي والقانوني بين المستخدمين:
أصبح الوصول إلى المعلومة أكثر سهولة وسرعة بوسائل البحث والتعلّم الرقمي، وعليه يستطيع المستخدم التعلم من جميع المنصات، إلا أن بعض المنصات يلزمها وعي انتقائي في تلقي المعلومات مثل منصة "إكس" " تيك توك" ... وذلك لكون الناشرين من العموم. لذلك ينبغي المساهمة في نشر الثقافة القانونية من المتخصصين، خصوصًا مع ارتفاع حملات التشهير.
دور التعليم والإعلام في نشر ثقافة النقد البنّاء:
يُعد التعليم والإعلام أهم وسيلتين أساسيتين لغرس قيم المسؤولية والوعي لدى الأفراد، وتشجيعهم على التمييز بين النقد الموضوعي والتشهير المسيء وتوضيح صورهم.
دور المنصات التقنية في رصد المحتوى المسيء:
يمكن للمنصات الرقمية الاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي لمتابعة المحتوى المنشور، ورصد الكلمات التي تنقل النقد الموضوعي إلى تشهير شخصي بحيث لا تسمح بنشره وهذا بدوره يعد حل وقائي أكثر فعالية، بما يحقق بيئة أكثر أمانًا للمستخدمين.
ختامًا، يتضح أن التشهير عبر الوسائل الرقمية يمثل تحديًا كبيرًا في عصر الانفتاح المعلوماتي. وتكمن الإشكالية في التمييز بين حرية التعبير المشروعة والتشهير المجرّم. لذا ينبغي التأكيد على أن حرية التعبير لا تُعد مبررًا للإساءة أو الاعتداء على حقوق الآخرين.
كما أن الدعوة لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي بمسؤولية ووعي تُعد خطوة جوهرية للحد من هذه الظاهرة، مع أهمية تكامل الجهود بين الأفراد، والمؤسسات التعليمية والإعلامية، والمنصات التقنية، لتحقيق بيئة رقمية أكثر وعيًا وعدلًا
17/ 9/ 2025 م كتابة: رغد عبدالغني الغانمي